تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن المعنى الاقتصادي للازمة، وقدمنا بعض الأسباب المباشرة للازمة الحالية وميزناها بتعدد مظاهرها وتشابك خيوطها، لدرجة أننا قدمنا بعض القراءات التي تنتقد بقوة النظام العالمي الحالي وتحمله مسؤولية إخفاقات البشرية وتوالي انكسارات الشعوب. في هذا الجزء سنقدم بعض نتائج الأزمة الحالية، كما سنبرز دور بعض القرارات السياسية في تأزم الأوضاع.
في أمريكا الاقتصاد العالمي القوي، والدولة الرأسمالية الأولى، التجأت الحكومة إلى ضخ أموال طائلة في السوق البنكية لتوفير السيولة حتى لا يفلس الاقتصاد بشكل عام. وأول ضحية لتداول القيم التي وصفناها في الجزء الأول بالحامل لنسبة كبيرة من المجازفة المالية هي مؤسسة برادرز بانك احد لأبناك التجارية الكبرى في أمريكا والعالم ككل، وقد عزا مجموعة من الاقتصاديين هذا الإفلاس الى عدم قدرة إدارة البنك من تدبير المخاطر البنكية فيما يتعلق بالقيم المنقولة، لكن جواب مدير البنك في جلسة محاكمة مسببي الأزمة، اتهم بدوره المتلاعبون بالقيم في البرصات العالمية، كما اتهم مهندسي الأسواق بفقدان صوابهم وجنونهم للأرباح السريعة مما افقد البنك قدرته على تجاوز الأزمة.
بدوره وزير المالية الأمريكي في عهد بوش، والرجل القوي في وولستريت هيلك بولسن والذي قدم على أساس المنقذ للاقتصاد الأمريكي سنة 2007، قال ان الأوغاد هم من صنعوا الأزمة وباعوا الوهم في البرصة وهذا ثمن التهاون وثمن ضعف آليات المراقبة في الأسواق، وعزا بدوره ان هناك مستفيد من الأزمة دون الإشارة الى المقصود من كلامه.
أعلنت امريكا إفلاس مجموعات بنكية كبرى، وشركات في البورصة، كما تم بيع منازل الفقراء بمبالغ اقل بكثير من قيمتها الأصلية، فنتج حراك اجتماعي في امريكا، ولو لا التدخل الحكومي والبنك المركزي لتوفير السيولة لأبناك بدعم من بعض دول الخليج العربي ودولة الصين لانهار الجسم المالي للاقتصاد الأمريكي.
في العالم، رفضت انجلترا التدخل لحماية لأبناك الأمريكية ونفس المنوال سارت عليه ابناك فرنسا وسيوسرا، نظرا لتوجسها بالأزمة التي أصبحت ذات بعد عالمي، لكن هنا وجب الإشارة الى أن انجلترا كانت وعدت حكومة بوش بشراء بنك ليمان برارز فلم تفي بوعدها السري لان بعض المضاربين الانجليز كانوا سيخسرون أموال طائلة في هذه العملية المالية الخطيرة.
هذا القرار الفجائي لانجلترا أدخلته عدة صحف ضمن انسداد الأخلاقي للتعاملات المالية في السياسة العالمية. وحديثنا عن القيم والأخلاق الاقتصادية يقودنا للحديث عن غيريانت اندرسون بائع المجوهرات في الهند الذي ادخله اخوه الى برصة لندن ليصبح بعد ذلك رجل أعمال ،يقدم نفسه كمهندس مالي ومحللا اقتصاديا، وقد اعترف ان كل أعماله عبارة عن خداع، وحمل المسؤولية للحكومة البريطانية التي كانت ترغب في جلب الاستثمار دون النظر الى نبل الوسيلة، هذه السياسة أدت الى دخول أناس أثراء عالم البرصة وحركوا الاقتصاد البريطاني دون العلم بمصير أموالهم وكيفية تنقيلها عبر القيم المنقولة حول العالم.
بالإضافة الى التهور في اتخاذ القرارات المالية داخل البرصات الأمريكية والأوروبية، خصوصا في ضل الصراع على القيادة المالية التي تسعى إليه كل من امريكا وانجلترا الشيء الذي اجبر حكومتي البلدين لتسهيل المساطر القانونية لولوج البرصة، ومنها خرج أناس متهورون أصبحوا في رمشة عين أصحاب القرار المالي، وعليه استغل المقامرون والمصرفون الكبار سذاجة بعض المستثمرون لتمرير منتوجات مالية سامة، انتشرت في العالم دون انتباه احد، او بالأحرى دون تجرأ احد للسؤال عن القيمة الحقيقة للأسهم السامة ذات الأصل العقاري الأمريكي.
وتلا الانهيار المالي انهار في أسواق البترول بانخفاضات قياسية، أثرت بشكل او بأخر على مداخل مجموعة من الشركات البترولية، وبدأت الشكوك في قدرة العالم في إيجاد بدائل للخروج من الأزمة، ومنها سارعت الدول الى ضخ الأموال في الأسواق، وتشجيع الاقتراض عن طريق خفض نسب الفائدة، بالإضافة إلى نهج سياسة التقشف في الشؤون العامة.
وراء مجموعة من الاقتصاديين ان هذه الحلول دقت ناقوس الخطر خصوصا وان كل الأموال التي صرفت جاءت من الدين الخارجي، مما عرض الاقتصاد العالمي لضغوط كبرى وأصبحت السياسات الحكومية المالية تسير وفق أهواء الساسة. وهذا ما قصد الدكتور المنجرة بقيمة القيم التي فقدها الساسة لحظة اتخاذ القرار.